-A +A
علي بدير - تبوك
«أيتها الغالية.. لقد اتوا بنا الى هذه البلاد المقفرة الا من الثلج والجليد، وحالنا حال من قيل له: هيا ازرعوا نخلة هنا في هذا القاع الثلجي وعلى النخلة ان تثمر فمن اين لها ان تثمر فلا الارض ارضها ولا الهواء هواؤها ولا الماء ماؤها» كلمات كتبها الدكتور فايز عبدالله ماهر فلمبان من داخل مستشفى مونتريال العام بكندا في ليلة شتوية وصلت درجة الحرارة فيها الى 40 درجة تحت الصفر لتلخص لنا معاناة كثير من المبتعثين في الحصول على الدكتوراه وغيرها من الشهادات العليا. هنا يروي الدكتور فلمبان الحائز على الزمالة الكندية لجراحة العظام قصة حصوله على الدكتوراه.
جراحة العظام

اثناء الدراسة يحتار الطالب في تحديد التخصص الذي يميل اليه بين الجراحة والاطفال او امراض النساء والولادة، ولم يخطر ببالي ان «اهيم» بحب جراحة العظام الا بعد قضاء سنة الامتياز وكان السؤال المهم هو بعد اجتيازي للمرحلة الجامعية كيف واين اتخصص في هذا الفرع المهم؟ في العام 1987م قررت التخصص في كندا لما للتخصص في هذا البلد من سمعة ممتازة ومعروف ايضا انه من الصعب جدا اجتياز التخصص في ذلك البلد اذ يتوجب عليك قضاء سنوات صعبة في برنامج صعب وتجتازه وتكون جائزتك ان تقضي كل سنوات عمرك العملية بعدها في سعادة وتتمكن من حرفتك كجراح عظام وهكذا كان هذا التخصص من اعظم التحديات التي رضيت ان اخوض غمارها طوعا!
رحلة الدكتوراه
بدأت الدراسة في صيف 1987 تحديدا في شهر يوليو، في جامعة مجيل بكندا، وكان لزاما على طالب التخصص في جراحة العظام ان يقضي فترة سنة كاملة في الاقسام الجراحية الاخرى مثل الجراحة العامة، جراحة المخ والاعصاب، جراحة التجميل، جراحة القلب والاوعية الدموية، وذلك حتى يكتسب التجربة والخبرة اللازمة للالمام بكافة الجوانب الصحية المهمة في مجال الاصابات.
وبعد ذلك يتم الانتقال والانضمام الى برنامج جراحة العظام الذي يستغرق ثلاث سنوات وخلال هذه المدة الزمنية يتنقل المتدرب بين مختلف افرع جراحة العظام من جراحة عظام الاطفال، والعيوب الخلقية مثل الخلع الوركي والعمليات الترميمية للمفاضل والمفاصل الصناعية والاصابات الرياضية وجراحة الظهر وجراحة اليد وجراحة الاورام العظمية وبعدها يتحدد لدى المتدرب ميوله بشكل كلي او جزئي الى احد تلك الفروع.
جامعة مجيل بكندا من كبرى الجامعات في العالم وهي حلم وقبلة كثير من الاطباء الراغبين في التخصص في كل افرع الطب ما دفع بكثير من الاطباء للتضحية بكل شيء في سبيل للحصول على مقعد للتدريب في هذا الصرح الضخم وقد صرفت الدولة كثيرا من الاموال لتغطية تكاليف دراستنا هناك.
والمعروف عن هذه الجامعة نظامها القاسي في التدريب فساعات العمل شاقة وطويلة فالمتدرب هو طبيب يعمل ويتدرب ويدرس في ذات الوقت ومطلوب منه ان يقدم مستوى محددا من التحصيل فان حقق ما دون ذلك المستوى فان ابسط ما يفعلونه هو استبداله بغيره وكان التنافس بين المتدربين عاليا اذ كان لزاما علينا الدخول في منافسة مع الكنديين والامريكيين وغيرهم من المتدربين من مختلف انحاء العالم تحت سقف واحد هو برنامج التدريب فقد كان هناك عدد كبير من الحواجز مثل اللغة والعادات واسلوب العمل، وللمشاهد ان يتخيل كيف انصهرنا في هذا الوسط المشحون بالتنافس.
لذلك كانت رحلتي مثل رحلات غيري ملأى بالتعب والجهد والدموع، لكن كما هو معروف لابد للتعب والجهد الموجه الا وان يأتي بنتيجة مشرقة بالنهاية، لذلك فاني ارسل رسالة الى كل المتدربين واقول لهم ان التخصص ليس بنزهة وسياحة انما هو تعب وتحصيل دموع.
حادثة سعيدة
واذكر حادثة سعيدة في تلك الفترة فقد تقرر فصل مستشفى الاطفال الكبير عن مستشفى صغير آخر للاطفال وكانوا بحاجة الى رئيس للاطباء المقيمين يغطي المستشفى الاول وكنت في السنة المتوسطة للتخصص، فقرر مجلس التدريب بالجامعة اختياري لذلك. حصل هذا كله ولم اخبر به وفي يوم من الايام اخبرني احد زملائي الامريكيين بانه سوف يتم نقلي الى ذلك المستشفى وطلب مني ان ينتقل بدلا عني ان لم يكن لدي مانع فلم اتردد بالموافقة كون ذلك المستشفى من المستشفيات المزدحمة جدا والعمل فيه كثير ومضن فما كان من رئيس القسم بذلك المستشفى الا وان طلب مقابلتي بمكتبه واصارحكم بأني توجست خيفة من هذه المقابلة ففي العادة لايعارض رؤساء الاقسام مثل هذه التغيرات وانتظرت مدة ليست بالقصيرة عند باب مكتبه، فلما قابلني شعرت بالراحة وذلك لبشاشته في الاستقبال وسألني مباشرة بعد المصافحة: فايز.. هل تشعر بعدم الثقة في نفسك؟ فقلت له بالطبع لا. فقال اذا كيف ترفض مثل هذا العرض النادر بأن تترأس المجموعة الطبية الجديدة، فقلت له انا لم اعرف هذه التفاصيل الا منك الان. وقال لي بأن مجلس التدريب اختارك من بين تسعة متدربين للقيام بترؤس المجموعة التي سوف تعمل في هذا المستشفى بعد انفاصله عن المستشفى الاخر، ولاحظ بأنك مازلت في السنة المتوسطة وليست النهائية أي انه قد اعطيت مهام الطبيب في السنة النهائية، وسوف تكون لك الحظوة في اجراء كل العمليات الجراحية دون غيرك، وان المجلس لديه الثقة بأنك سوف تدير هذه المهمة الحساسة باقتدار.. فلماذا تدير ظهرك لهذه الثقة؟ بداية لم اصدق اذني وفرحت فرحا شديدا بتلك الثقة وقلت له بصوت كله فرح وترقب هل تريدني ان ابيت في هذا المستشفى من الان؟ ضحك الدكتور وقال لي: هل عرفت الان معنى التنافس؟ ثم قال لي: اننا نعرف في برامج التدريب لدينا بالجامعة بأنكم ايها الاطباء السعوديون تبذلون جهدا مضاعفا في التنافس كونكم لستم من اهل هذه البلاد، وهناك الكثير من الفروقات، ولكنكم اثبتم في كثير من الاحوال بأنكم اهلا للثقة.
فعرفت وقتها بأن الانسان لابد وان يبذل من الجهد الكثير للحصول على الثقة فالحصول على ثقة المرضى لا يأتي من فراغ والحصول على ثقة الناس لايتأتي من عبث.
الغربة وزوجتي
واذكر في ليلة من ليالي الشتاء القارس بكندا حيث الحرارة 40 درجة مئوية تحت الصفر كنت وقتها مناوبا في مستشفى مونتريال العام وتبلغ سعة المستشفى 1400 سرير و ما يصاحب ذلك من عمل مجهد انني وصلت لمنتهى اليأس وقتها وكنت في السنة الثانية فقط فكتبت رسالة لزوجتي طويلة اتذكر منها ما يلي: «ايتها الغالية.. لقد اتوا بنا الى هذه البلاد المقفرة الا من هذا الثلج والجليد، وحالنا حال من قيل لهم: هيا ازرعوا نخلة هنا، في هذا القاع الثلجي، وعلى النخلة ان تثمر، فمن اين لها ان تثمر، فلا الارض ارضها ولا الهواء هواؤها ولا الماء ماؤها» واعطيتها رسالتي في اليوم الثاني، وكنت اتمنى لو انها بكت تعاطفا، الا انها لم تفعل فقد ضحكت مني وقالت: «انه يوم عصيب فقط، ولن يكون الاخير» استغربت فعلتها وكنت اقول في نفسي من اين تأتي هذه المرأة بهذا القدر من الصمود والتماسك. وبعد سنوات ادركت بأنها كانت تقطر في داخلها دما كلما تعبت انا، لكنها حجبت كل ذلك دعما وحفاظا على كل مكتسب جديد. وذلك كان حال معظم زوجات المبتعثين.
بعد التخصص
هذا وقت جني الثمار، هذا وقت الوفاء لهذا البلد الغالي، هذا وقت التحدي الحقيقي، كنت ومازلت اقول لمن ادربهم ان الامتحان الحقيقي ليس امام لجنة الاختبارات. انما هو هنا امام مريضك، امام مرضه وعجزه وحاجته اليك بعد الله. فلا تخذلن مريضك بعجزك انت بدأت العمل كاستشاري لجراحة العظام في مستشفى الهدا للقوات المسلحة، وذلك في بداية 1993 هنا يبدأ التخطيط للمستقبل هناك عدة اسئلة يجب الاجابة عليها: ما هي طبيعة امراضنا، ما هو التوزيع الديموغرافي للمنطقة ومنها يكون التفكير في طبيعة الاستعداد لطرح خطة الخدمة المقدمة للمرضى، وبناء على ذلك فقد كان تركيزي على الاصابات الناتجة عن حوادث السير، امراض الاطفال، والمفاصل الصناعية لامراض التهاب الركبة والورك، والاصابات الرياضية. لذلك فقد ادخلت العمليات المتخصصة في تعديل واطالة العظام بواسطة جهاز «الاليزاروف» وطورت بالتعاون مع قسم الاطفال بالمستشفى نظاما للفحص المبكر لخلع الورك الولادي للاطفال حديثي الولادة وبذلك فقد قلصنا عدد العمليات الترميمية لخلع الورك في الاطفال بصورة كبيرة جدا ومحسوسة فقد كنا نجري عمليات الترميم مرة او مرتين كل اسبوع من قبل ومن ثم الى مرة في الشهر او الشهرين من بعد تطبيق النظام الجديد، احمد الله واشكره على ذلك فله الفضل في كل ذلك.
تدرجت في العمل ابتداء من استشاري الى رئيس لقسم جراحة العظام بمستشفى الهدا، الى ان وصلت الى منصب مدير الادارة الطبية ورئيس الاطباء، انشأت وقتها قسما خاصا بالجودة والابحاث، وانشأت قسم تطوير العاملين وشاركت في كثير من اللجان التابعة للادارة العامة للخدمات الطبية للقوات المسلحة فقد ترأست لجنة اعداد المعايير الخاصة بجراحة العظام لمستشفيات القوات المسلحة، واخترت لعضوية اللجنة الاستشارية الطبية العليا للخدمات الطبية للقوات المسلحة، برئاسة الدكتور القدير عبدالرحمن الشثري، وشاركت في لجان اخرى تعنى بالتطوير.
قدمت اوراقا علمية في مؤتمرين عالميين منها مؤتمر جراحي العظام لدول مجلس التعاون الخليجي، ومؤتمر جراحة عظام الاطفال العالمي بالقاهرة. ولي عملية خاصة بي في ترميم عضلات الورك للاطفال الذين فقدوا العضلات المبعده للورك جراء العمليات المتكررة في ذلك الموضع او لاسباب اخرى لايسمح المجال هنا لذكرها.
انشأت نادي جراحي العظام بمنطقة الطائف واحتفلنا بمرور عشر سنوات على انشائه قبل سنتين.
اما جراحة المفاصل الصناعية فرحلتي معها مثيرة، فقد كانت المملكة العربية السعودية من اولى دول المنطقة في اجراء مثل هذه العمليات وذلك في عام 1979م وعند عودتي للعمل في اوائل التسعينات كنت ادرك بأن الوقت قد آن للتفكير في اجراء عمليات الترميم الخاصة باستبدال المفاصل المتهاوية التي تم اجراؤها في السنوات السابقة اضافة الى الحاجة الى تطوير هذا النوع من العمليات ونقلها نقلة نوعية من حيث اختيار التقنية العالية للمفاصل انتهاء باستخدام اخر المستجدات التقنية في هذا المجال. ففي سنة 2007 قررت ان ادخل تقنية الكمبيوتر في اجراء هذا النوع من العمليات وحتى ذلك التاريخ لم تكن كل مستشفيات اوروبا وامريكا قد ادخلت هذه التقنية الى مستشفياتها بل ان الامر كان مقصورا على بعض المستشفيات الجامعية فقط.
اما في مستشفى الملك عبدالعزيز للقوات المسلحة بتبوك فقد قمنا باجراء هذه العمليات بشكل روتيني ووصلنا الى عدد كبير من الحالات التي استفادت من هذه التقنية وذلك في اشهر معدودة واصبحت من الممارسات الجراحية الاعتيادية وادين في هذا النجاح بعد الله لمدير المستشفى العميد الطبيب والصديق الدكتور غالب بن غالب بن حريب لدعم هذا المشروع فقد كان لحكمته وحماسه ورغبته في التطوير كل اثر ايجابي واقول هنا ان كثيرا من عمليات التطوير يمكن ان تحصل بغير اعباء مالية كبيرة لكن ايضا العديد منها ما هو مكلف وتصاحبها اعباء مالية كبيرة ولابد لنا ان اردنا التطوير ان نضحي بالمال والجهد في سبيل تقديم خدمات متميزة.
تطور جراحة العظام
للوهلة الاولى تحرز الخدمات الطبية في المملكة تقدما باهرا فالمراقب المنصف وغير المنصف لابد وان يقر بأن هذا البلد حقق السبق في المجال الطبي، وفي هذا النسق تأتي جراحة العظام كفرع اخر نفتخر نحن من انتسبنا اليه بالتقدم الملحوظ والسريع ففي الثمانينات الميلادية كان المريض بحاجة الى السفر الى اقاصي الارض للحصول على خدمات علاجية في مجال جراحة العظام اما الان فقد اصبح لدينا ما يعفي مرضانا من السفر للخارج بقصد العلاج ففي مجال جراحة المفاصل الصناعية اصبح لدينا جهابذة يجرون اصعب العمليات الجراحية المعقدة في كافة افرع جراحة العظام فهناك الكثير من الزملاء الاطباء المعاصرين الجراحين الذين يفخر الوطن بوجودهم هذه هي الحقيقة، حقيقة هذا البلد المليء بالقدرات والكفاءات وهنا اقول للمسؤولين عنا نحن الجراحين: نحتاج دوما لدعمكم فلا ينقصنا الحماس ولا ينقصنا العلم لكننا بحاجة دائمة للدعم العلمي والمادي والاداري والمعنوي لادارة دفة التطوير فجراحة العظام من الجراحات المكلفة.